Sunday, February 12, 2006

مقدمة فى حركة الفن المصرى الحديث - بقلم : أحمد فؤاد سليم


احمد فؤاد سليم
فنان وناقد تشكيلى وباحث وشاعر
المشرف العام على متحف الفن المصرى الحديث
القوميسير العام لبينالى القاهرة الدولى
مقدمة فى حركة الفن المصرى الحديث
قدمت مصر للعالم أول نِسَبٍ ذهبيةٍ للأبعاد وللدوائِر ، ولمدارك الأجرام ، ولمجمل إيقاع اللون كضوء ، وزرعت فكرة الجمال الأول ، والجلال الأول ، ليس فقط فى الروح وفى العقيدة ، وإنما كذلك فى التمثال وفى الصورة ، وفى العمائر ، وفى الغائر والبارز من الحجر ، وجعلت الصورة الحِسِّية والصورة الذهنية هما الأصل الأول ، - وهكذا كانت "الكلمة" هى "الصورة" . وهكذا أيضاً عرف شمال المتوسط عبْر الأمواج الحوامل حضارةً مُثلَى تهبُّ عليها من جنوب المتوسط ، فتعلَّموا منها فنونها وعلْمها وحكمتها -، ثم هو الزمان يدور دورته ، وإذا بالشمال يعود عبر البحر إلى مصر واضعاً عَطيَّتَهُ التى هى ضفيرة الحضارة المشتركة التى أنجبها المتوسط لثقافات العالم .
وكيف كان يمكن لأمةٍ أن تتجاوز ميراثاً ثقيلاً كمثل ميراث تراث الفراعنة ، كيف لها أن تفلت من إسارِهِ وسطوة قوالبِهِ التى تمثَّلت فى الفن والعلم والحكمة والصوفية ، والبلاغة والإيجاز -، شأن ذلك هو شأن الهرم والمسلة ، ومفتاح الحياة ، والدَرَج السُّباعى ، والهرم المدرج ، والرجل المنسوخ لطائر ، والأسد الإنسان ، واللغة التصويرية ، وميزان الحياة الآخرة . لهذا كانت تلك القطيعة التاريخية التى أَعطبتْ الحضارة ،، مؤثرةً تأثيراً فى العقل المصرى إلى نخاعه . وإنما بسبب ذلك كان المخاض متوقعاً ، وكانت جينات طمى الأرض تكابد قيامتها للقاء شعبٍ جُبِل على الإبداع وعلى المبادرة .
وما أَن بزغت شمس القرن العشرين حتى ولد فيها محمود مختار الذى أنهى زمن القطيعة ، وإذا به يعيد مراجعة الروح التى عَرَفَتْها مصر على طول حياتها ، فيجعلها تَتَلَبَّس رُزْنَامة العصر فى منحوتاته ، ثم كان محمود سعيد الذى أطلق الحياة الجوانية من إسارها ، ونسج ثقافة الصورة ، وراغب عياد الذى وضع المفتاح الأول للخلاص من معطف الاستشراق فى الفن ، ومحمد حسن الذى نقل إلينا تقنيات الشمال وكأنه يعيد السيرة الأولى للمتوسط ،، وهكذا توالى جيل الرواد الذين حملوا شعلة التنوير فى الفن ، وبينهم أحمد صبرى ، ومحمد ناجى ، ويوسف كامل وصبّاغ وعلى الجارم – وفى حين كانت تولد المستقبلية والتكعيبية والدادية والسوريالية فى الغرب فى الحقب الثلاث الأولى من القرن العشرين ، كانت قد قامت فى مصر فى الثلاثينيات جماعة أطلقت على نفسها اسم "المحاولون" ، ثم "السورياليون الجدد" ثم جماعة "الفن والحرية" ، وتلك جميعا وقف فى وسطها كامل وحسن التلمسانى ، وفؤاد كامل ورمسيس يونان ، والشاعر جورج حنين فى محاولة للثورة على النمط المكرر ، والتمرد على الأكاديمية وعلى الإحباط الإجتماعى – ولم تمض عشر سنوات أخرى حتى قامت جماعة الفن المعاصر التى قادها ثمانية شبان كانوا جميعا فى العشرينات من عمرهم بينهم سمير رافع وحامد ندا والجزار ورائف باحثين عن هوية تكون هى غطاؤهم ، وإذا بهم يطرحون فى بيانهم الأول عناصر التمرد البنَّاءَةَ ، معتبرين أن للفن وجوهاً خمسةً هى : جمال الصورة الفنية ، ثم الشعر والموسيقى والأدب والفلسفة – وبموازاة هؤلاء كان هنالك المستقلون الذين قدموا جمالاً جديداً متحرراً وكأنهم يعيدون بناء العقل المتلقِّى ومنهم "كنعان" الذى يعد رائد الحداثة الجديدة ، وعفت ناجى الكاشفة عن جماليات الفلاحين ، وحمدى خميس الذى اختار شرائح النحاس فى الصورة كبديل للون ، والأرناؤوطى أحد أوائل التجريديين المصريين ، ويوسف سيده الذى جعل من الخط العربى لغة الفن المعاصرة ، وصلاح عبد الكريم أول النحاتين المصريين الذين ثاروا على الخامات التقليدية ، وسيف وانلى التجريدى الذى جلب لنا رحيق البحر الأبيض المتوسط ، وغيرهم كأبى خليل لطفى ، وحامد عبد الله ، وعبد الرسول ، وتحية حليم وجاذبية ، وعويس ، ورمزى مصطفى – هؤلاء جميعاً وغيرهم غرسوا الأرض وجعلوها نبتاً طيباً فى الستينات الماضية ، ومنذئذ نهضت مجموعات أخرى جديدة تحمل غُرْسَها وخطابها عبر جيل الستينات ، ثم صعدت هذه المجموعات الجديدة بقامتها وبنيتها حتى اجتازت البحار الصعبة إلى قارات الأرض ، وشهدت متاحف العالم الكبرى التى كانت مكتفية بآثار الفراعنة ، وبتراث المسلمين القدامى ، لوحات وتماثيل بعض أولئك الأبناء الموهوبين الجدد الذين ولدوا من صلب الحضارات القديمة – فكأنما هكذا التاريخ يعيد نفسه ويُجَدْوِلُ جيناته المعاصرة من ميراث الأوائل - ثم أخيراً تلك العَطِيَّة التى قدمتها الثقافة للأجيال الجديدة من الموهوبين الشباب منذ نهاية الثمانينات ، فإذا بحركة الفن المصرى يغزوها حَمَلَةُ مشاعلٍ من طراز جديد ، طراز جُبِل على الحرية والتمرد والثورة على النمط ، وعلى المزاوجة بين الفن والتكنولوجيا ، وبين الجمال والعلم ، وبين الموهبة والعقل – وإذا بهم يملؤون الساحة ويحملون البشارة لتاريخ الفن الحديث فى مصر بفوزهم بجائزة الأسد الذهبى فى بينالى فينسيا الدولى فى منتصف التسعينات وهى أعلى جائزة تعطى للفنانين ولأجنحتها فى التاريخ ، هكذا أعطت الثقافة ، وهكذا جمعنا حصادنا .
أحمد فؤاد سليم